يكتب جاسم العزاوي عن مسرح دبلوماسي اعتادت واشنطن فيه على الأداء أكثر من الإقناع، حيث تُدفع الدول الصديقة إلى الطاعة خلف الأبواب المغلقة، ثم تُعرض مظاهر الامتثال تحت أضواء الكاميرات. ينكشف خلل هذا الطقس في 18 نوفمبر، حين يستدعي البيت الأبيض ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ويُبلغه، وفقًا لما نقله باراك رافيد من موقع أكسيوس عن مصدر قريب من قنوات استخباراتية إقليمية، بأن الرئيس ينوي الضغط عليه علنًا للاعتراف بإسرائيل قبل الوقوف أمام الإعلام. يلوح الإنذار واضحًا: تنتظر واشنطن امتثالًا على الهواء، بينما يتجه المشهد إلى محاولة إكراه أكثر منه دبلوماسية.

 

ويشير ميدل إيست مونيتور إلى أن ما تلا ذلك يتجاوز لعب الإشارات، إذ يتحول إلى كمين علني يسعى لحشر الحاكم الفعلي للسعودية في تنازل مهين. يرفض محمد بن سلمان، فينهار الكمين بصورة مدوية.

 

شروط سعودية وحدود أميركية

 

يصرّ ولي العهد، بحسب رواية رافيد، على حقيقتين لا تُمسان: يعارض الرأي العام السعودي بقوة أي تطبيع دون قيام دولة فلسطينية، وتضع الرياض شروطًا واضحة منذ البداية تقوم على مسار ملموس لا رجعة فيه نحو الدولة الفلسطينية، مرتبط بجدول زمني وضمانات، ولا ينفصل التطبيع عن حلّ المسألة الإقليمية الأساسية. يرد المسؤولون الأميركيون بوضوح مماثل: لن تُلبّى هذه الشروط.

 

يكرر ولي العهد موقفه حرفيًا في اللقاء العلني، من دون مواربة أو تلطيف أو لغة مزدوجة. تفشل مناورة اللحظة المباشرة أمام الكاميرات، ويصيب الارتباك دوائر القرار في واشنطن.

 

اتفاقيات بلا فلسطين

 

يتكشف خلف المشهد دافعٌ أوسع: تدفع إدارة ترمب بقوة لتسريع موجة التطبيع العربي الإسرائيلي متجاوزة القضية الفلسطينية بالكامل. يرى التقرير أن “اتفاقيات أبراهام” لا تُقدَّم كأدوات سلام، بل كإعادة اصطفاف جيوسياسي يرسّخ تفوق إسرائيل ويهمّش المطالب الفلسطينية. لا تؤجَّل الدولة الفلسطينية فقط؛ بل تُرفع من جدول الأعمال.

 

في الوقت ذاته، تبقى إسرائيل حذرة من أي ترتيبات أمنية ثنائية بين واشنطن والرياض قد تُضعف احتكارها العسكري النسبي في المنطقة. يستحضر رافيد كيف عارض مسؤولون إسرائيليون تزويد السعودية بطائرات إف-35 مكافئة في التطور لما لدى إسرائيل، بذريعة الحفاظ على “التفوق العسكري النوعي”، حتى تجاه دولة يجري السعي لتطبيع العلاقات معها. تظهر المفارقة صارخة: تطلب إسرائيل السلام لكنها ترفض الندية.

 

حسابات خاطئة واستعراض سياسي

 

تحسب دوائر البيت الأبيض أن الضغوط الناتجة عن الغضب العالمي إثر مقتل جمال خاشقجي ستجعل ولي العهد أكثر ليونة. يتعامل ترمب مع نتائج الاستخبارات بخفة علنية، ملوّحًا بصفقات السلاح وروابط المال. تفترض واشنطن أن الهشاشة تعني القابلية للتشكيل، غير أن الغرور يخطئ التقدير.

 

تكشف محاولة الإكراه منطقًا إمبرياليًا قديمًا: الضغط يكشف الضعف، والضعف يجلب الاستسلام. لكن ذلك اليوم يكذب القاعدة. يقف محمد بن سلمان ثابتًا، لا يتراجع ولا يتذلل. يُمزّق المشهد أسطورة راسخة عن الدبلوماسية السعودية بوصفها ذراعًا مطيعة للقوة الأميركية. يعلن الرفض حدودًا باردة واستراتيجية: تفاوض نعم، مساومة نعم، لكن لا خضوع لرمزية مفروضة تلغي تقرير المصير الفلسطيني.

 

يتّضح مقصد الاستعراض: لم يكن ترمب يبحث عن سلامٍ بقدر ما كان يبحث عن صورة... صورة زعيمٍ عربي يمنح الاعتراف، وصفقةٍ تُتوَّج أمام الكاميرات، فيما تُزاح فلسطين إلى هامش المشهد.. ولكن الرفض السعودي يعطّل ذلك السيناريو.

 

حدود القوة وشرعية الداخل

 

لا يحوّل الحادث ولي العهد إلى بطل أخلاقي، وتبقى سجلات السياسة الداخلية والإقليمية على حالها من الجدل. لكنه يرسم خطًا واضحًا: ينسجم الموقف من فلسطين مع المزاج الشعبي العربي التقليدي الذي يرى تطبيعًا بلا دولة مكافأةً للاحتلال وتكريسًا للتهميش. لا تُغطي صفقات السلاح ارتدادًا داخليًا يمنح شرعية لتوقيع علني على بقاء الشعب الفلسطيني بلا دولة، خاصة مع ثقل رمزية السعودية بوصفها حارسة لأقدس موقعين في الإسلام.

 

يبرهن المشهد أن الأمم ليست أصولًا تفاوضية، وأن القادة—حتى حين تحيط بهم الانتقادات—لا يتحولون بالضرورة إلى ممثلين في مسرح سياسي خارجي. يخطئ من يساوي بين الإكراه والسيطرة. تتبدى حدود القوة من دون صراخ أو صدام، بل بكلمة واحدة ثابتة: لا.

 

تنجلي في تلك الغرفة مساحة مقاومة هادئة لغرور القوة، وتبقى الرسالة مفتوحة: لا تمنح الشرعية ما لم تُمنح السيادة. وفي هذا المفصل، تنكشف هشاشة الاستعراض حين يصطدم بإرادة لا تقبل التوقيع على تغييب شعب بأكمله.

 

https://www.middleeastmonitor.com/20251202-trump-tried-to-corner-mbs-he-blinked-first/